٦ أيار ٢٠٢٤
جميل بايك: حرية القائد آبو ستكون بمثابة انتصار عظيم للديمقراطية والحرية على المستوى العالمي
أكد جميل بايك، أنه رغم موقف الدول الأوروبية وتعاونها في تنفيذ المؤامرة الدولية ضد القائد آبو، ألا أن الرأي العام الأوروبي أبدى موقفاً ودعماً قوياً للحملة العالمية من أجل القائد، منوهاً أنه يجب دفع هذا المسار قدماً لتوفير الاستمرارية للنشاطات في هذا الصدد.
صدر عن دار المحروسة المصرية كتاب جديد تحت عنوان: “عبد الله أوجلان.. مسيرة نضالية تحدت الصعاب وإبداع فكري تخطى الجدران” حول مسيرة القائد أوجلان ونضاله وفلسفته والمؤامرة الدولية التي تعرض لها ووضعه الحالي. لمجموعة من السياسيين والمثقفين أعضاء المبادرة العربية لحرية القائد أوجلان.
وتضمن الكتاب لقاء مع السيد جميل بايك، الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي لمنظومة المجتمع الكردستاني (KCK) حالياً، وأحد المشاركين في المؤتمر التأسيس لحزب العمال الكردستاني عام 1978، فيما يلي الجزء الثالث والأخير من الحوار:
1- ما يزال الصمت الدولي مستمراً تجاه دعوى السيد أوجلان. أتساءل؛ تُرى، هل يستغل الغرب موضوع حقوق الإنسان لمصلحته فقط؟
كنتُ ذكرتُ أن القائد آبو تم تسليمه إلى تركيا في تمشيطٍ نفّذته قوات الناتو تحت المسؤولية السياسية لأمريكا والاتحاد الأوروبي. وأصلاً، فعندما نُقِلَ القائد آبو ليُعتَقَلَ في سجن إمرالي، كان أول شخص استقبله هناك هو مسؤول في مجلس الاتحاد الأوروبي، والذي قال للقائد آبو: “من الآن فصاعداً، سيكون مجلس أوروبا مسؤولاً عمّا سيحدث في إمرالي”. أي أنه ألقى خطاباً مفاده، إلى حد ما، أنه سيكون هناك ضمانٌ قانوني في إمرالي. لكنّ سياسة أمريكا وأوروبا تجاه القائد آبو والقضية الكردية كانت واضحة: لابد من تحييد القائد آبو. ولهذا السبب لم يسمحوا له بممارسة السياسة، عندما ذهب القائد آبو إلى أوروبا. عليَّ الإشارة إلى أن إنكلترا، على وجه الخصوص، لعبت دوراً حاسماً في هذا الأمر. فمن المعلوم أن أوروبا أوصلت العديد من القادة الثوريين إلى حالةٍ يندمجون فيها مع النظام السائد، من خلال سياسات التحييد التدريجي مع مرور الوقت. لكنهم كانوا يدركون أنهم لم يتمكنوا من تحقيق ذلك في شخص القائد آبو. ولأجل ذلك اتّخذوا موقفاً صارماً، وحبَكوا المؤامرة على يد قوى الغلاديو. إن مَن نظَّمَ المؤامرة بالتحديد هم أمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل. وشاركت فيها العديد من الدول الأوروبية والاتحاد الروسي واليونان وطاجيكستان. لكنّ أمريكا والاتحاد الأوروبي كانا فاعلَين وتَحَمّلَا المسؤولية المباشرة. عندما تم اختطاف القائد آبو من كينيا وتسليمه إلى تركيا في 15 شباط/فبراير 1999، قال رئيس الوزراء التركي آنذاك، بولند أجاويد: “لم أفهم حقاً لماذا سلَّمَتنا أمريكا عبد الله أوجلان؟”. أي أنه لم يستطع إخفاء دهشته من هذه المؤامرة، بل صرّح علناً أنه يجد صعوبة في فهمها.
مقصدي هو: هل من الممكن لأمريكا وأوروبا، اللتَين نظّمتا المؤامرة الدولية، أن تُظهِرا المسؤولية والحساسية السياسية والقانونية والإنسانية والوجدانية تجاه القائد آبو؟ فالمهم بالنسبة لهما دوماً هو المصالح الاقتصادية والسياسية. لذا، وعندما تقتضي الحاجة، فإنهما لا تترددان في الدعس على قيمهما وقوانينهما أيضاً. وإلا، لو كانتا ملتزمتَين حقاً بالقانون وتحترمانه، فهل كان بإمكانهما رفض طلب القائد آبو للحصول على تصريحِ إقامة لممارسة السياسة في أوروبا؟ ألا يقولون: الجميع سواسة أمام القانون؟ لا شك أن هذا رياء وديماغوجية ونفاق كبير. فارتباطاً بهذا الصدد، قامت الدولة التركية حتى الآن بإخلاء وإحراق وتدمير آلاف القرى الكردية في كردستان. وارتكبت آلاف جرائم القتل “ذات الفاعل المجهول”، بدءاً من قتل الناس برَميهم من الطائرات الحوّامة. وقتلت عشرات الآلاف من النساء والشيوخ والأطفال والمدنيين. أياً كانت الزاوية التي يُنظَر منها، فمن الواضح جلياً أن ما فعلَته الدولة التركية بالكُرد في كردستان، هو جرائم حرب. لكنّ الاتحاد الأوروبي والقانون الأوروبي والسياسة الأوروبية والدول الأوروبية لا يريدون قطعاً رؤية هذه الأمور أو سماعها أو حتى إدراكها. لماذا؟ لأن تركيا عضوة في حلف الناتو، وثانياً؛ لأن لهم معها علاقات ومصالح اقتصادية وسياسية كبرى. لذا، فإن كل ما له علاقة بحقوق الإنسان والقانون والعدالة ينتهي هنا.
لِنَعُد إلى الظروف الشاقة والاستثنائية، وإلى جميع أنواع الأعمال اللاقانونية التي يعانيها القائد آبو: إن القانون الأوروبي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لم يتعاملا أبداً مع قضية القائد آبو ومع سياق محاكمته بأمانة وصدق. هناك لجنة منع التعذيب التابعة لمجلس أوروبا. ويُقال إن هذه المؤسسة التابعة لمجلس أوروبا كانت تزور القائد آبو على فترات منتظمة. لكن هذه اللجنة، وبعد كل هذه الزيارات إلى إمرالي، لم تُشارك الرأي العام إطلاقاً بأية معلومات حول وضع القائد آبو، وحول الخروج عن القانون والجرائم القانونية التي ترتكبها الدولة التركية في إمرالي. على حدّ علمي، ورغم أنه يتوجب على هذه المؤسسة أن تصدر بياناً وفقاً لنظامها الداخلي وواجباتها ومسؤولياتها، إلا إنها لم تفعل. ورغم أنها تتمتع بالصلاحية، إلا إنها لم تفرض أية عقوبات على الدولة التركية. لذا، جليٌّ تماماً أن القانون الأوروبي يخدم بالكامل السياسةَ الأوروبية مصالح الدول الأوروبية. أي أن القانون يعمل وفقاً للمصالح الاقتصادية والسياسية. إنه كذلك بصورة خاصة عندما يتعلق الموضوع بالقائد آبو وبالنضال الكردي التحرري.
بالطبع، عند الحديث عن أوروبا، فلا بد من التمييز بين الدول الأوروبية وبين المجتمع والرأي العام الأوروبي. يجب أن أشير إلى أنه، ورغم موقف الدول الأوروبية، إلا إنه ثمة حساسية واحترام كبيرَين حقاً لدى المجتمع والرأي العام الأوروبي تجاه القضية الكردية وظروف أَسْر القائد آبو. فهناك دعم قوي وحساسية من مجموعةٍ واسعة من الناس هناك، بدءاً من الفنانين والنقابيين والمثقفين والأكاديميين والفلاسفة، وصولاً إلى الحركات النسائية والأشخاص المعنيين بالقانون. لا شك أنه من الضروري دفع هذا المسار قُدُماً من خلال تنظيمه بنحو أفضل وأوسع، لتوفير الاستمرارية للنشاطات والحساسيات المتنامية في هذا الصدد.
بهذا المعنى، يمكنني القول بسهولة أنه، وخارج نطاق الصمت السائد على الساحة الدولية، هناك دعم قوي وحساسية متزايدة يومياً تجاه القائد آبو. إذ هناك حملة عالمية مشابهة للحملة العالمية التي أُطلِقَت من أجل حرية “مانديلا”. فالإطلاق المتزامن للحملة تحت شعار “الحرية الجسدية للقائد آبو، والحل السياسي للقضية الكردية”، في عشرات المراكز حول العالم، في صباح هذا اليوم، الموافق 10 تشرين الأول/أكتوبر 2023، هو حقاً نشاط ثمين للغاية. وكلي إيمان أنه سيتطور أكثر في الفترة المقبلة. لذا، لا يمكننا الحديث عن سيادة الصمت على الساحة العالمية في مواجهة قضية القائد آبو. على العكس، بات واضحاً منذ الآن أن عمال العالم ونساءه وشبابه وكل مَن يقاوم الاضطهاد والاستغلال سيشاركون في هذه الحملة كحركة عالمية أممية. وأرى هذا مهماً للغاية.
2- كيف ترون شعوب الشرق الأوسط، التي تعيش تحت سقف وعقيدة الدولة القومية، وأولئك الذين يقبلون بفكرة “الأمة الديمقراطية” (أو الذين يقبلونها إلى حد ما)؟ إذ تمثل “الأمة الديمقراطية” الثورةَ ضد “الدولة القومية”، وهي جزء من البنية الاجتماعية والثقافية لشعوب المنطقة. فكيف يمكن تجاوز مفهوم الدولة كفكرة، وتطوير مفهوم المجتمع؟
عليّ الإشارة إلى أن “الأمة الديمقراطية” هي بديل نموذج “الدولة القومية”، والذي يمثل الحداثةَ الرأسمالية كنظام. في حين أن الأمة الديمقراطية، وكذلك الكونفدرالية الديمقراطية، التي هي فلسفتُها وشكلُها الإداري، تمثلان نموذج ورؤية الحداثة الديمقراطية، أو بالأحرى، يجدر القول، وبدقة أكبر، أنهما تجدان معناهما الحقيقي في الحداثة الديمقراطية. إن التقييمات والتشخيصات، التي طرحَها القائد آبو بخصوص الأمة الديمقراطية والدولة القومية، وبخصوص العديد من القضايا الأخرى، مذهلة للغاية. إذ يقول القائد آبو: “إن الصراع بين الأمة الهادفة إلى بناء الدولة وبين الدولة القائمة على الأمة هو من الأسباب الرئيسية وراء الواقع الدموي لعصرنا”. ثم يستطرد قائلاً: “يتم تقديم الدولة القومية، التي هي واحدة من أكثر موضوعات العلوم الاجتماعية تعقيداً، على أنها عصا سحرية وأداةً تحلّ جميع المشاكل المناهضة للحداثة. في حين أنها، من حيث الجوهر، تُضاعف المشكلة الاجتماعية الواحدة إلى ألف مشكلة. وسببُ ذلك هو تغلغلُ جهاز السلطة في الشعيرات الدموية الدقيقة للمجتمعات”. هذا الاقتباسُ الموجز الذي أخذتُه من تحليلات القائد آبو، يشرح كفايةً الواقع التاريخي للدولة، والواقع الراهن للدولة القومية، وكذلك واقع مختلف أجهزة السلطة التي سبقَت الدولة. فالوقتُ الذي ظهرَت فيه علاماتُ خروج البشرية من الحياة الجماعية، هو الوقتُ الذي بدأَت فيه مراكزُ السلطةِ بالتشكُّل. أي أنه الوقتُ الذي تحَكَّمَ فيه أشخاصٌ بالمجتمع البشري، دون أن يَكونوا دولة. أما الدولة، فهي قمةُ القمع والعنف والقوة، وتحتوي بين طواياها على كل مهاراتِ السلطة. فأولئك الذين رأوا أن الله موجود في الأعلى وأنهم الربُّ الذي على وجه الأرض أو أنهم رُسُل الله، قد قالوا ذلك، بالتأكيد، بفضل استخدامهم لكل أنواع العنف والقوة. وإلا، لا مكان هنا أبداً للمحبة والعدل والرحمة. والحال هذه، فالدولةُ تعني هذا القدر من التحكُّم والهيمنة والتعسف والغبن.
أما الدولة القومية، فظهرَت كزبدةٍ واختصارٍ وتمثيلٍ لجميع أشكال الدولة والسلطة التي سادت حتى يومنا الحاضر. إذ طالما تصاعدَت اعتماداً على المجتمع المهيمن والعقلية الأحادية والبيروقراطية الصارمة والعنف العلني. أما الاحتلال والنهب والتوسع، وتحقيق الربح الأعظم والتحكم بالسوق، فهي السياسات العامة للدولة القومية المتمثلة في الحداثة الرأسمالية. وهي لا تقتصر على التحكم في السوق فحسب، بل تقوم على الهيمنة الثقافية والذهنية أيضاً.
إن ثقافة منطقة الشرق الأوسط غنية للغاية، وجغرافيتها كانت مهد البشرية. إذ انتقَلَت، أو نُقِلَت، العلوم والفنون والفلسفة من الشرق الأوسط إلى الغرب بعد مرور آلاف السنين. والدول القومية الأوروبية تدرك ذلك جيداً. ولهذا السبب ظلت عيونها دوماً مُسلَّطة على التراث الثقافي العريق للمنطقة وعلى ثرواتها. ولَطالما سَعَت إلى تشويه العقلية أو إلى تحوير ثقافات المنطقة كي تشبهها هي. وإلا، فهي تدرك جيداً أن الهيمنة الرأسمالية الغربية لا يمكنها أن تتطور أو تتعزز من دون ذلك. في الحقيقة، إن حملات نابليون إلى مصر ثم إلى موسكو في أوائل القرن التاسع عشر كانت المحاولات الأولى لبسط الهيمنة الغربية. مع ذلك، لم يفلح نابليون في مساعيه تلك. لكن، عندما تمكَّن البريطانيون، المعروفون باسم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ببسط نفوذهم، استطاعوا حينها تعزيز هيمنتهم وتأمين ديمومتها إلى حد كبير. وكما هو معلوم، لم تنقص الفتوحات الأخطر على الشرق الأوسط قبل ذلك بكثير، أي، منذ عهد الإسكندر وروما وبيزنطة، ومن بعدها الحروب الصليبية. ومع أن واقعاً كهذا موجود في جذورها وماضيها، إلا إن الخطر الحقيقي تصاعد بعد أن نظَّمَت الدولة القومية نفسها كنظام. فإذا انتبهنا إلى مدى الدموية والعنف اللذَين تأسست عليهما الدول القومية، فسندرك أسباب وكيفية إصرارها، الذي لا يعرف حدوداً، في القمع والعنف والحرب، أكان ضد بعضها بعضاً أو تجاه الخارج. فحسب رؤيتها: ما دامت تأسست بالدم والنضال والثورة، فمن الضروري القيام بما يلزم لتأمين ديمومة الدولة القومية ولتوسيع وتطوير سلطتها ودائرة نفوذها. وهذا ما فعلته دوماً.
أما الدول القومية في الشرق الأوسط، فتأسست بطريقة مختلفة. ففي فرنسا، لم يذهب لويس السادس عشر ولا روبسبير ولا دانتون إلى المقصلة من أجل الدولة القومية. ولم تتأسس الدول القومية في الشرق الأوسط من خلال الثورة، بل من خلال تحديد البريطانيين لها على الخريطة. وبسبب تأسيسها على هذا النحو، فإن القوى التي تحميها، أو التي قامت بإنشائها، قد أَضعَفَت الدول القومية في الشرق الأوسط، وحوَّلَتها إلى ركيزة لها، وأَلَّبَتها على بعضها بعضاً، أو دفعَتها إلى الحرب، أو وَجَّهَتها كما تشاء وحين تشاء. وكان نصيبُ شعوب الشرق الأوسط من كل هذا، هو أن تعيش حياةً عقيمةً وبعيدةً كل البعد حتى عن فُتاتِ الحياة الحرة والقيم الديمقراطية، وأن تحافظ على وجودها في ظل أجواء القمع والعنف.
من المؤكد أن الأمة الديمقراطية ليست كذلك. يقول القائد آبو: “إن نموذج الدولة القومية بالنسبة للمجتمعات هو، تماماً، فخٌّ وشبكةٌ من القمع والاستغلال. بينما مصطلح الأمة الديمقراطية يقلب هذا التعريف بالعكس. فتعريفُ الأمة الديمقراطية، التي لا ترتبط بحدود سياسية صارمة، ولا بلغةٍ أو ثقافةٍ أو دينٍ أو تفسير تاريخي واحد، يُعَبّر عن شراكة الحياة بين المواطنين التعدديين والأحرار والمتساوين وجماعاتهم المتضامنة. إن الأمة الديمقراطية تعني تَحَوُّل الشعب بذاته إلى أمة، دون الاعتماد على السلطة والدولة؛ بل اعتماداً على التّسَيُّسِ اللازم لأجل ذلك. ليس التّسَيُّس فحسب، بل إنها تحاول إثبات قدرة الشعب على التحول إلى أمة وبناء ذاته كأمة ديمقراطية من خلال مؤسسات الدفاع الذاتي والمؤسسات الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والدبلوماسية والثقافية الخاصة به؛ من دون التحول بتاتاً إلى دولة أو سلطة”. وكما ذكَرَ القائد آبو، لا يمكن تحقيق المجتمع الديمقراطي إلا من خلال نموذج الأمة الديمقراطية، الذي تسوده الحياة الديمقراطية الحرة، والشراكة الذهنية والثقافية، واتحاد جميع أعضاء الأمة ضمن المؤسسات الديمقراطية شبه المستقلة، وإدارتهم لذواتهم بإراداتهم الحرة الديمقراطية. جميع الثقافات والجماعات تتمتع في الأمة الديمقراطية بالحق في العيش بحرية وبإدارة وتمثيل نفسها فيها بصورة ديمقراطية. بهذا المعنى، فإن طراز الإدارة الديمقراطية شبه المستقلة هو الشرط الأساسي لكينونة الأمة الديمقراطية. وهذا يعني أن الأمة الديمقراطية هي بديل الدولة القومية. وهذا ما يعني بدوره أنه، بدلاً من حكومة الدولة القومية، فإن الإدارة الديمقراطية شبه المستقلة والإدارة بمحلّها توفّران فرصةً عظيمةً للحرية والمساواة. فبينما نجد أن الدول القومية تتجه نحو التفكك والانحلال في هذه المرحلة من التاريخ، فإن الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية هما اللتان تزدهران في روحِ ووعيِ الشعوب، وتُزَوِّدان كل الجماعات والثقافات بالأمل، وتُشَكِّلان المستقبل الواعد لها.
وإذا تطوَّرَ التاريخ في هذا المنوال، فإن الحياة الديمقراطية والحرة ستتطور أكثر. إن الدولة والحرية، والدولة والديمقراطية هي، في الواقع، معادلة إشكالية. فمن الواضح أنه عندما تتصاعد إحداهما، تصبح الأخرى أضعف وأقل فاعلية. ما أود قوله هو: كلما تطورت الحرية والحياة المتساوية والديمقراطية، كلما تراجعت الدولة وتقلصت. وإذا قرأنا المعادلة بشكل معكوس: فكلما كانت الدولة أقوى وأكثر نفوذاً، كلما كانت الحياة الحرة والديمقراطية أضعف وأقل فاعلية. إن الجغرافيا التي ستُفكك وتُفسِد تلك المعادلة الإشكالية لصالح الديمقراطية والحرية، هي، بلا شك، منطقة الشرق الأوسط. لقد وصلت الدولة القومية ونظام الحداثة الرأسمالية إلى الذروة، التي ما من بعدها شيء، ولا بد لهما من الهبوط. وهذا هو سبب الأزمة والفوضى والانحلال والتفكك الذي يعانيه النظام السائد. أي أنه يمرّ الآن بمرحلة الهبوط التي تلي الذروة. والحال هذه، لن يكون خطأً القولُ إن الدول القومية قد عفا عليها الزمن بسبب نظام الحداثة الرأسمالية. ولا مفرّ من حدوث تغيّرات ومستجدات مهمة في فترة التفكك والانحلال هذه. والتطورات في الشرق الأوسط هي التي ستُسَرِّع وتُحَقِّقُ ذلك، لأنها منطقة عذراء، وحُبلى بالديمقراطية والحرية والحياة التشاركية المتساوية، ومنفتحة على التطور والتحول، ولأن الروح المجتمعية والتقاليد تُعاشُ فيها بنحوٍ أكثر انتعاشاً وحيوية. وبقدرِ تطوِّر كل هذا، فإن نظام الحداثة الرأسمالية، الذي هو نظام الدول القومية خصوصاً ونظام الدول عموماً، سيتفكك؛ وسيتطوّر نظام الحداثة الديمقراطية. ستتعزز الروح المجتمعية على هذا الأساس: تنظيم المجالس الشعبية، التي تمثل الحياة التشاركية والعقل المشترك والإرادة المشتركة؛ وتأسيس الاقتصاد التشاركي القائم على الإنتاج؛ والحفاظ على الوجود اعتماداً على آليات الدفاع الذاتي؛ وبناء الأكاديميات التي تُعَدُّ مدارس للعلم والتنوير والتعليم والتوعية. وتطوير كل هذه الأمور معاً سيَكون القوة المحرِّكة للمجتمع. وبطبيعة الحال، فإن كل مَن يتبنى هذه الأفكار والرؤية، ويدافع عنها، ويعمل عليها في الشرق الأوسط، هو شخص عزيزٌ جداً. وبالتأكيد، لن يكون خطأً نعتُ هؤلاء بأنهم “صَيّادو الحقيقة”. فكلُّ نشاطٍ أو جهدٍ يُنير المجتمع ويرفع وعيه، ويدمج الإنسان بجوهره الذاتي، هو مقدسٌ حقاً.
3- نظراً لأن دول المنطقة لا تدعم إنشاء الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وانطلاقاً من الحاجة، فقد تطوَّرَ التعاون مع أمريكا. كيف ترون انقطاع هذه العلاقة مع واشنطن في المستقبل؟ لاسيما وأن أمريكا هي الرمز الغربي للحداثة الرأسمالية، وتمثل العداء الأكثر تطرفاً لفكرة الأمة الديمقراطية.
في بداية العام 2011، بدأت المرحلة المسمّاة “الربيع العربي” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي خططت وأججت هذه المرحلة، لأنها، من ناحية، أرادت تغيير بعض الأنظمة التي لم تَعُد قادرةً على خدمتها، بل ورفضَتها حتى مجتمعاتُها؛ ومن ناحيةٍ أخرى، أرادت، تأسيساً على ذلك، إعادة هيكلة الشرق الأوسط وفقاً لمصالحها. ولهذا السبب، كانت بحاجة إلى مثل هذا “الربيع العربي” المزيف. لكن التطورات لم تتم كما تصوّرت وخططت لها أمريكا. ومع ذلك، كانت قد حُرِّكَت المشاكل في المنطقة. ثم تم اختيار سوريا كهدف. إذ كان من الضروري تغيير النظام في سوريا، حتى لو استدعى الأمر استخدام كل القوى وشتى مجموعات المرتزقة، من أمثال داعش وجبهة النصرة وأمثالهما. علماً أن أمريكا والدولة التركية كانتا قد بدأتا بالفعل بتأمين التدريب والمُعِدّات وجميع أنواع الدعم اللازم لمجموعات المرتزقة التي قامتا بإنشائها. لكن، ماذا فعلوا، وما الذي حصل حتى تَحَوَّلَت وجهةُ داعش فجأة لاستهداف الكُرد؟ من المؤكد أن حكومة رجب طيب أردوغان ضمن الدولة التركية هي التي فعلت ذلك. فوفقاً للدولة التركية، ما كان ينبغي للكُرد في شمال وشرق سوريا أن يتنفسوا الصعداء أبداً، وما كان ينبغي أن يتواجد أي شيء باسم الكرد، مهما كان الثمن: لا الإدارة الذاتية، ولا شبه الاستقلالية، ولا المكانة، ولا الحياة الحرة والديمقراطية؛ لأن هذا سيكون مثالاً سيئاً للكُرد الذين في شمال كردستان، أي لتركيا. لذا، كان لا بد من القيام بكل ما هو ضروري، لمنعِ وقمعِ مثل هذه التطورات. وفي واقع الأمر، فقد دعمَت الدولةُ التركية داعش والنصرة وغيرهما من مجموعات العصابات الفاشية على جميع المستويات، ودفعَتها لمهاجمة الكرد. وبعد ذلك، ظهَرَ أردوغان على شاشات التلفزيون، أعلن عداءه للكُرد صراحةً بقوله “إن كوباني على وشك السقوط”، وكأنه بذلك يعترف علناً بدعمه لداعش. حقاً، كان الشعب السوري عموماً، والكُرد في روج آفا خصوصاً يمرون بمرحلة صعبة للغاية في تلك السنوات، التي كانت بالنسبة للكرد مرحلةَ حياة أو موت بكل معنى الكلمة. أما الميزة الكبرى حينها، فكانت أن القائد آبو يُصِرُّ على تحالف الشعوب الكردية والعربية والمسيحية. أي أنه كانوا يتطلع إلى التدخل في السياق من منظور الأمة الديمقراطية، وليس باسم الهوية الكردية. كان ينبغي أن يكون الهدف هو قوات داعش والنُّصرة. وكان ضرورياً الاستعداد لمواجهة الأطماع التوسعية للدولة التركية الاحتلالية. والأهم من ذلك أنه كان يجب عدم استهداف الدولة السورية وعاصمتها دمشق. على العكس، كان ينبغي العمل مع الدولة السورية وعاصمتها دمشق، بالتالي مع شعوب سوريا، لأجل إيجاد حل ديمقراطي قائم على الكرامة والعدالة في هذه الفترة الحرجة من التاريخ. وعلى هذا الأساس، كان ينبغي تحقيق الحرية للكرد، والتحول الديمقراطي لسوريا. ولهذا السبب، استنفرَت حركتُنا وشعبُنا في شمال كردستان، ودعمَت بكل قوة وعلى جميع المستويات، مقاومةَ روج آفا وشعوب شمال وشرق سوريا ضد داعش. بالتالي، ربما كانت هذه المرة الأولى في التاريخ، التي تمتزج فيها دماء الشعوب الكردية والعربية والمسيحية في شمال وشرق سوريا، وتقاتل جنباً إلى جنب ضد العدو المشترك. كان مذهلاً حقاً أن يحدث هذا في وقتٍ كانت فيه العصبية القومية بشتى أشكالها قويةً بشكلٍ لا يُصدَّق في منطقة الشرق الأوسط. يجب عليّ الإشارة هنا بشكل خاص إلى مقاومة النساء الكرديات والعربيات والمسيحيات، اللائي قمن بريادة القتال ضد داعش بروح فدائية. لقد كانت ثورة ذهنية بكل معنى الكلمة. ولهذا السبب، فإننا ننعت الثورة التي حدثت في شمال وشرق سوريا، والتي نُسمّيها “ثورة روج آفا”؛ بأنها “ثورة القرن”، التي انطلقت في بقعة جغرافيةٍ صغيرة، لكنّها تحمل معاني كبيرة للغاية. هذه الثورة هي، بلا شك، ثورة شعوب شمال وشرق سوريا.
بينما كانت شعوب شمال وشرق سوريا تخوض حرب الوجود، لم ترغب دول المنطقة رؤية ذلك، للأسف الشديد؛ ولم تدعم بأي شكل من الأشكال مقاومةَ شعوب شمال وشرق سوريا، أكان ضد مرتزقة داعش والنُّصرة، أو ضد هجمات الدولة التركية الاحتلالية. فقط في منطقة عفرين، ربما عقدَت “قواتُ مقاومة عفرين” بين الحين والآخر تحالفاتٍ وشراكات مع قوات الدولة الإيرانية والسورية ضد مرتزقة جبهة النُّصرة. عدا عن ذلك، لم تَقُم أية قوة أو دولة في المنطقة بمَدّ يد العون لشعوب شمال وشرق سوريا، التي خاضت مقاومةً باسلة حقاً في حربها ضد داعش والنُّصرة ودولة الاحتلال التركي، وقدَّمَت حوالي 20 ألف شهيد، ولديها عشرات الآلاف من جرحى ومُعاقي الحرب. لقد شهدَت الشعوب الكردية والعربية والمسيحية ذلك وعاشته معاً.
ينبغي أن أشير إلى أنه: من الواضح أن القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي دعمَت شعوب شمال وشرق سوريا وإدارتها الذاتية في حربها ضد داعش. إذ استقرت تلك القوات في المنطقة تحت مسمّى محاربة داعش. وأنا على علم بأن لديها علاقة وشراكة على هذا الأساس مع شعوب شمال وشرق سوريا والإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. كان على الكرد وعلى شعوب المنطقة أن يفعلوا ويقبلوا بذلك، من أجل حماية وجودهم. لكن الحل الحقيقي للمشكلة يجب أن يكون، بلا شك، مع الدولة السورية والشعوب السورية. فالأفضل هو صياغة حل سياسي ديمقراطي من خلال الحوار والتفاوض. وعلى حد علمي، فإن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عقدت اجتماعات عديدة مع الدولة السورية حول هذا الموضوع. وقد أَبدَينا نحن مقاربةً مشَجّعة ومحَفّزة لذلك على الدوام. وما أعرفه أيضاً هو أن الإدارة الذاتية قدّمَت لدمشق مشاريع ديمقراطية ومعقولة للغاية لأجل الحل. وعلى سبيل المثال؛ فقد ذكروا أنه ليست لديهم أية مشاكل مع حدودِ سوريا أو علَمِها أو جيشِها أو رئيسِها؛ وأصَرّوا على أن يكون الحل ضمن إطار الوحدة السورية. لكن الدولة السورية لم تُظهِر أية مقاربة مشجّعة ومحفّزة للإدارة الذاتية في هذا الخصوص، بل وكثيراً ما رفضَته. وبطبيعة الحال، لو أن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا توصلَت إلى حل مع دمشق، لَضعفَت حجج ومبررات التواجد في سوريا أمام القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي. وعلى رغم أن الأمر شائك وعسير الحل، إلا إن الصحيح هو أن يقوم الطرفان، أي دمشق والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ببذل جهود مشتركة لحل مشاكلهما من خلال الحوار والتفاوض. فنحن نعلم أكثر من غيرنا أن الولايات المتحدة الأمريكية هي ممثل الحداثة الرأسمالية وقوتها الحارسة. فالمؤامرة الدولية، التي نفّذَتها شبكة الغلاديو التابعة لحلف الناتو ضد القائد آبو، قد تمّت بموافقة أمريكا. ونتيجة الدعم الأمريكي للدولة التركية، يُعَدُّ حزب العمال الكردستاني إرهابياً في العديد من الدول الأوروبية. لكن الجميع يعلمون أن أمريكا لم تستقر في الأراضي السورية بناءً على رغبةٍ وطلبٍ من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. وفي نهاية المطاف، يتعين على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا أن تفكر في وجودها وأمنها. والحقيقة هي أن الإدارة الذاتية لديها علاقات وشراكات مع أمريكا وقوات التحالف الدولي في إطار الحرب ضد داعش، وإن ضمن نطاق محدود. والمهم هو أن يتم حل المشاكل مع دمشق ضمن وحدة سوريا. ومن دون ذلك، لا أعتقد أن تحصل تطورات مختلفة كثيراً عن الوضع الراهن.
4- ما هي آراؤكم بشأن العلاقات العربية – الكردية؟ وما نوع النشاطات التي يجب القيام بها، لضمان الاستقرار للمنطقة والحرية للقائد أوجلان؟
يبيّن القائد آبو أن وجود ظاهرة “المزيد من السلطة والمزيد من الدولة” يأتي في مقدمة المشاكل المُعاشة في الشرق الأوسط. وهذا صحيح تماماً. فعقلية السلطة والدولة هي التي تجعل الشعوب والثقافات والمعتقدات تتصارع وتخنق بعضها بعضاً. بالتالي، فإن القانون الذي يعمل هنا هو كالتالي: كل مَن أراد حل المشاكل، سعى، بالتأكيد، إلى الحصول على المزيد من القوة والسلطة والدولة. وقد استمر هذا عبر التاريخ وكأنه قانون. لا شك أن الأمر هكذا، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل وفي كل مكان تتواجد فيه الدولة والسلطة. ربما كل شيء يتطور بشكل أكثر وضوحاً وبروزاً في الشرق الأوسط. لكن، وعلى سبيل المثال، لا يتخلف النظام الأوروبي عن ذلك قيد أنملة. والفارق الوحيد هو أنه يُضفي طلاءَ الديمقراطية على كل ما يفعله. ما أود قوله باختصار هو: في الحقيقة، لا مشاكل للشعوب والمعتقدات والثقافات مع بعضها بعضاً، إذا لم تَكُن هناك سلطة أو دولة. وما من ريب في أن قوى السلطة والدولة هي التي دائماً ما تؤجج المشاكل وتثير الصراعات، وتؤلّب المجتمعات والثقافات على بعضها بعضاً. إن الشرق الأوسط كناية عن فسيفساء من المعتقدات والثقافات والهويات. وما من سبب يمنعها جميعها من العيش معاً بديمقراطية وسلام وسعادة. لكن، وكما ذكرتُ في البداية، فإن السبب الأساسي لكل الصراعات والآلام والدموع، هو عقلية الدولة والسلطة.
أجل، إن الكُرد والعرب هم من أقدم الشعوب في جغرافية الشرق الأوسط هذه. وقد عاشوا معاً منذ آلاف السنين، وما يزالون. وعلى رغم أن العلاقات العربية – الكردية شهدت عبر التاريخ صعوداً وهبوطاً وتنافرت وتجاذبات، إلا إن ما تَرَكَ بصماته الحقيقية على كل هذه المراحل هو، بلا شك، الصداقة والأخوّة والرغبة في العيش المشترك. وقد عززت حقيقةُ أن لديهم نفس المعتقدات والتقاليد على مرّ السياق التاريخي هذا الأمرَ أكثر. وعلى رغم أن القوى ذات العقلية السلطوية تسبّبَت في بعض الأحيان بإلحاقِ ضرر كبير بهذه العلاقات القيِّمة بين الشعبَين، إلا إن قوّتها لم تَكُن كافية لتدمير أواصر الصداقة والأخوّة الكائنة في كنه العلاقات الكردية – العربية. والآن، واستناداً إلى هذا الإرث التاريخي، فكلي إيمان بأن العلاقات الكردية – العربية ستتطور بقوةٍ أكبر على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. ومن الواضح أن هناك أسباباً اجتماعية قوية جداً لحصول ذلك. إذ لا توجد مشاكل بين الكُرد والعرب فيما يتعلق بالأرض أو المعتقد أو التقاليد. بل على العكس، فهم يتمتعون بمزايا كونهم على دراية ببعضهم البعض، ويعرفون بعضهم بعضاً، ولديهم الكثير من القواسم المشتركة وعلى كل المستويات. بهذا المعنى، يمكنني القول بكل سهولة أن العلاقات الكردية – العربية لها أهمية محورية ومصيرية في رسم ملامح الشرق الأوسط وتحديد مسار مستقبله. الأمر كذلك أيضاً من حيث المسار التاريخي والكثافة السكانية، ومن ناحية أن منطقة الشرق الأوسط هي الأكثر انفتاحاً تمثيلاً وإحياءً لديناميات وآفاق وإمكانيات الديمقراطية والحرية. دعونا نتصوّر ولو للَحظة، أن الكرد والعرب أسسوا حياةً ديمقراطية وحرة ومتساوية. في هذه الحالة، يستحيل ألاّ نرى مدى الحرية والديمقراطية والسلام والسعادة والرفاه الذي ستنعم به منطقة الشرق الأوسط. وهذا ما يعني، بالتأكيد، أن الشرق الأوسط قد بنى حياته الديمقراطية والحرة. ولهذا السبب نقول إن النضال المشترك والعلاقة والوحدة الفكرية النموذجية بين الشعبَين العربي والكردي أمرٌ بالغ الأهمية لإرساء الديمقراطية ولبناء الحياة الحرة في الشرق الأوسط. لم تتمتع العلاقات الكردية – العربية قطّ بالقدرة والفرصة للنموّ بقدر ما هي عليه اليوم. وقد حلّلَ القائد آبو منطقة الشرق الأوسط بعمق كبير، وأعطى أهمية بالغة للعلاقات الكردية – العربية في سياق التحول الديمقراطي للمنطقة، وأكّد أنه للنضال التحرري الكردي وللمثقفين والثوار العرب دورٌ حاسم ومحوريّ في تحقيق التحول والتغير في الشرق الأوسط، وفي بناء الحياة الحرة وإرساء الديمقراطية فيها. وفي هذا الصدد، فإن الحساسية التي نلتمسها في أصدقائنا من المثقفين والكُتّاب والأكاديميين العرب، وكذلك الشعور العميق بالمسؤولية، والذي يُظهِرونه في نضالهم، هو أمر مثيرٌ حقاً. وكلي قناعة بأن هذا سيتطور أكثر في الفترة المقبلة. لا شك أنه يمكن قول الكثير والكثير عن العلاقات العربية – الكردية، لكنني، ورَدّاً على سؤالكم، سأكتفي بما قلته حول هذا الموضوع.
وفي السياق، فإنكم تسألون عن نوع العمل الذي يجب القيام به من أجل تحقيق الحرية الجسدية للقائد آبو. كما هو معروف، فإن أصدقاء القائد آبو والشعب الكردي، قد أطلقوا في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حملة عالمية كبرى تحت شعار “الحرية الجسدية للقائد أوجلان، والحل السياسي للقضية الكردية”. وبهذه المناسبة، أودّ الإعراب عن تحياتي القلبية لجميع الأصدقاء الذين أطلقوا الحملة المطالِبة بحرية القائد آبو. إنه حقاً نشاطٌ نوعي عظيم. إذ يجب أن يستعيد القائد آبو حريته الجسدية، من دون بد. وأعتقد أن التاريخ يحتّم ذلك. إذ ستكون حرية القائد آبو بمثابة انتصار عظيم ومكسب كبير للديمقراطية والحرية على المستوى العالمي. بهذا المعنى، يجب أن أكرر أن الحملة التي تم إطلاقها على نطاق عالمي، هي ذات مغزى كبير جداً. وبالطبع، هناك الكثير مما يتعيّن القيام به إلى جانب ما تم إنجازه حتى الآن. أعتقد أن اللجان والفرق المعنية قد فكّرت بشكل أعمق وأشمل على هذه القضايا. ربما أستطيع قول الآتي من باب إتمام هذا التفكير: بادئ ذي بدء، ينبغي مواصلة هذه الحملة بحماس وعنفوان، وخلق تآزرات جديدة، دون فقدان أي شيء من وتيرتها. وأعلم أن الحملة انطلقت بشكل متزامن في العديد من الدول والمراكز حول العالم. بالمقدور عقد مؤتمر يجمع مندوبين أو ممثلين من جميع تلك المراكز، بحيث تجري فيه نقاشات شاملة حول ما تم إنجازه حتى الآن، وما يجب القيام به من الآن فصاعداً؛ وتتم ترجمة ذلك إلى خطط جديدة ورصينة، وتصدر عنه قرارات جديدة. ثانياً؛ يجب الاستنفار لجمع التوقيعات في كافة الدول والمراكز التي تسري فيها الحملة، بحيث تُجمَع هذه التوقيعات في مركز واحد، ليتم تسليمها إلى الجهات المعنية. ثالثاً؛ لا بد من تعبئة الصحافة العالمية، وبخاصة الصحافة العربية والأوروبية، وأن تُبذَل جهود حثيثة لضمان قيام وسائل الإعلام بدورها المأمول. رابعاً؛ ينبغي أن يكون هناك نشاط سياسي وقانوني في هذا الصدد. وأن تُبذَل الجهود لإرسال وفودٍ إلى إمرالي، والضغط على الدولة التركية للالتزام بمتطلبات القوانين الدولية. خامساً؛ يجب تطوير العلاقات مع كافة الاتحادات والنقابات والمنظمات والمؤسسات المعنية مثل: الجامعة العربية، منظمة التعاون الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي، مجلس أوروبا، لجنة منع التعذيب التابعة لمجلس أوروبا، الاتحاد الأفريقي وغيرها. سادساً؛ يجب تعبئة النقابات والفنانين في كل مكان، وتنظيم فعاليات مشتركة أكبر وأوسع نطاقاً. ونخصّ بالذكر أن المهرجانات الموسيقية وغيرها من الأنشطة التي سيقوم بها الفنانون من الأصدقاء العرب في الشرق الأوسط ستكون لها معانٍ أعظم بكثير. سابعاً؛ من الضروري عقد المؤتمرات والندوات ووُرَش العمل بشكل مكثف. ثامناً؛ سيكون من المهم حقاً تشجيع الأنشطة والدراسات الأكاديمية حول أفكار القائد آبو ورؤيته في الجامعات والمعاهد العلمية، والعمل على ضمان تدريسها كمقرر دراسي في الجامعات. ما من شك في أنه هناك العديد من الجهود والأنشطة التي يتعين القيام بها من أجل حرية القائد آبو. لكنّ هذا ما يمكنني الإشارة إليه كبداية.