٥ أيار ٢٠٢٤
جميل بايك: العالم العربي سيتنفس الصعداء مع حل القضية الكردية
أوضح جميل بايك أن الدولة التركية لم تتردد أبداً، في ارتكاب جميع أنواع جرائم الحرب بحق الكرد؛ لأنها تنال دعمَ أمريكا وأوروبا وإسرائيل، وأكد أنه على الجميع وخاصة الأصدقاء العرب لعب الدور في هذه القضية، لأن العالَم العربي سيتنفس الصعداء مع حل القضية الكردية.
صدر عن دار المحروسة المصرية كتاب جديد تحت عنوان: “عبد الله أوجلان.. مسيرة نضالية تحدت الصعاب وإبداع فكري تخطى الجدران” حول مسيرة القائد أوجلان ونضاله وفلسفته والمؤامرة الدولية التي تعرض لها ووضعه الحالي. لمجموعة من السياسيين والمثقفين أعضاء المبادرة العربية لحرية القائد أوجلان.
وتضمن الكتاب لقاء مع السيد جميل بايك، الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي لمنظومة المجتمع الكردستاني (KCK) حالياً، وأحد المشاركين في المؤتمر التأسيسي لحزب العمال الكردستاني عام 1978، فيما يلي الجزء الثاني من الحوار:
1- لو لم يكن السيد عبد الله أوجلان في السجن منذ 25 عاماً، فكيف كان سيكون شكل المشروع الكردستاني الآن برأيكم؟ ما الذي كان يمكن تحقيقه فيما يتعلق بالرغبات والأحلام؟ ونُعرِبُ لكم عن شكرنا عن تجاوبكم معنا؟
من المؤكد أنه للقائد آبو مكانة حاسمة في كل مرحلة وكل مستوى من نضالنا. فالقائد آبو هو بالذات مَن صاغَ أيديولوجية هذه الحركة وبرنامجها وسياستها واستراتيجيتها وفلسفتها في الحياة وكل شيء يخصها. أستطيع القول بكل سهولة أن القائد آبو شخص يتمتع ببصيرة نافذة. وحدسه قوي بصورة غير عادية. إنه شخص يتنبأ بالمخاطر والفرص والاحتمالات الواردة، ويعرف كيف يتموضع وفقاً لذلك. إذ تَثبتُ صحةُ تحليلاته وتشخيصاته بخصوص العديد من المواضيع، كما لو أنه رآها وعاشها واختبرَها مسبَقاً. إن القائد آبو معتَقَل في ظروف غير عادية في سجن إمرالي منذ 25 عاماً. إذ ليس لديه أي اتصال مع العالم الخارجي. ولستُ متأكداً حتى إذا كان بإمكانه الآن متابعة التطورات عبر القنوات التلفزيونية أو الإذاعية القليلة، التي تسمح بها الدولة التركية. مع ذلك، وعلى رغم الشروط المحدودة والصعبة والاستثنائية للغاية؛ إلا إن التقييمات التي صاغها القائد آبو في مرافعاته، والرؤية التي رسمَها، والتحليلات التي طوّرَها؛ كانت حقاً استثنائية. كما كانت النظرية والسياسة والخطوات التكتيكية العملية التي طوَّرَها ذات طبيعة مفاجِئة ودافعةٍ نحو الأمام في كل الأوقات. وهكذا كانت الحال حتى عندما ظهرنا كحركة لأول مرة. فعبارةُ “كردستان مستعمَرة” تعود للقائد آبو. وهو الذي أقرَّ بأن التخلص من ذلك سيكون ممكناً من خلالِ ثورة التحرر الوطني. إن الحديث عن أن كردستان مستعمَرة، وأن تحريرها ممكن عن طريق الثورة، هي قضايا لم يَكُن بإمكان أحد أن يفكر فيها في تلك السنوات، وحتى لو فكَّروا، فلم تَكُن لديهم الجرأة على قولها أو طرحها على جدول الأعمال. بهذا المعنى، فعندما برزنا لأول مرة كحركة، فقد لعب القائد آبو دوراً رائداً وفاتحاً للآفاق بشأن تحديد طبيعة القضية الكردية وكَنَهِ حلّها من جهة، ودمقرطةِ تركيا من جهة أخرى. ومثلما ذكرتُ سابقاً، فعندما حصل الانقلاب العسكري الفاشي في تركيا في العام 1980، عانت قوى اليسار الثوري ضغوطاً غير عادية. فبعض الجماعات والمنظمات أصرّت على أسلوب النضال المعتاد، لأنها عجزت عن صياغة تحليلٍ كافٍ لطبيعة الانقلاب العسكري الفاشي؛ أي أنها كانت غير مستعدة لحدوث هكذا انقلاب. وعندما أصرّت على أسلوب النضال الاعتيادي وكأن شيئاً لم يحدث، هاجمتها الطغمة العسكرية الفاشية بشراسة. وفي النتيجة، استشهد الكثير من الثوار خلال مقاومتهم، في حين وقع كثيرون منهم في الأَسْر بيد العدو؛ ما جعل تشتُّتُها وتصفيتُها أمراً محتوماً. أما المجموعات والمنظمات التي لم تقاوِم أبداً انقلاب 12 أيلول الفاشي، فتمّ حلُّها والقضاء عليها منذ اليوم الأول، لدرجةِ أنه لا يوجد لها أيّ أثرٍ في راهننا. وبينما كانت الحركة الثورية التركية تعيش وضعاً كهذا، قام القائد آبو بتقييم طبيعة الانقلاب العسكري الفاشي وظروف النضال المتغيرة، وقرّرَ انسحاب الحركة إلى الخارج، من أجل إعادةِ لَمّ شملها وتنظيمها مجدداً. هذا هو الوضعُ الذي وصفتُه بـ”الهجرة” في ردّي على سؤالكم السابق. ومن خلال ذلك تطوّرَ تعارفُنا وعلاقتنا وتضامننا مع الشعب الفلسطيني والمنظمات الفلسطينية. ومن خلال ملاحظة المستوى الذي بلغناه في نضالنا، الذي نخوضه دون انقطاع من حينها وحتى اليوم، وكذلك المكاسب الثورية التي برزت للميدان؛ يتبين بكل جلاء كم كان قرار الهجرة ذاك، الذي أقرّه القائد آبو، قراراً تاريخياً واستراتيجياً. أي أن القائد آبو لم يتصرف بسياسة التراخي المفضية إلى الاستسلام، مثلما فعل البعض في ظروف انقلاب 12 أيلول الفاشي؛ كما لم يتصرف بانفعالاتٍ لامحدودةٍ تفضي إلى الطائفية اليسارية بصورةٍ غيرِ جاهزة وغير منظَّمة. كل هذا يكشف أن القائد آبو يتمتع بأسلوب قيادي يحدد دائماً التكتيكات والسياسات وفق الظروف المتغيرة. وقد حدث موقف مماثل خلال سياق المؤامرة الدولية أيضاً. إذ، وبعد المؤامرة الدولية، اعتقدَت القوى المتآمرة والدولة التركية القائمة على الاحتلال والإبادة، أن حزب العمال الكردستاني PKK سينتهي، وبالتالي، أن آخِرَ تمردٍ كردي في كردستان بقيادة PKK سيتم قمعه. لكنّ هذا لم يحصل. إذ ابتدأ القائد آبو مرحلةً جديدةً كلياً، من خلال مرافعاته، وكذلك من خلال آرائه وإرشاداته، التي نقلها إلى حزبنا وشعبنا من خلال لقاءاته مع محاميه في السنوات الأولى. كما طوَّرَ رؤية “الحداثة الديمقراطية” في تلك السنوات، وطرحَ علينا مشروع “الكونفدرالية الديمقراطية”، التي نُسَمّيها نحن “منظومة المجتمع الكردستاني KCK” (Koma Civakên Kurdistan)، والتي أتولى رئاستها التشاركية حالياً.
أستطيع القول بكل وضوح وشفافية، أن القائد آبو، الذي لعب دوراً تاريخياً كهذا في ظل أقسى الظروف وأكثرها استثنائيةً في السجن، لو أنه كان حراً طليقاً، وليس معتقلاً منذ 25 عاماً، مثلما ذكرتم في سؤالكم؛ لَكان الوضع الحالي في كردستان مختلف كل الاختلاف. فلماذا نفّذَت قوى الهيمنة العالمية والحداثة الرأسمالية تلك المؤامرةَ الدولية؟ إذ كنتم تتذكرون، فإن مشروع “الشرق الأوسط الكبير” كان على جدول أعمال الولايات المتحدة الأمريكية في تلك السنوات. وكانت منطقةُ الشرق الأوسط حبلى حقاً بالتطورات الثورية، فمُنِحَت الدولةُ التركية دوراً مهماً في إعادة تصميم الشرق الأوسط. لقد كانوا مصممين على إعادة تصميم المنطقة وفق مصالحهم الخاصة. إلا إن القائد آبو والنضال التحرري الكردستاني كانا عائقاً أمام ذلك. ولأن قوى الحداثة الرأسمالية انتبهت إلى ذلك، قامت بتسليم القائد آبو إلى تركيا جرّاء مؤامرة دولية، ليُعتَقَلَ في سجن إمرالي. لكن، عندما ننظر إلى المنجزات المتحققة خلال 25 عاماً من الاعتقال، وما قام به القائد آبو، الذي يُعتَبَر خطيراً جداً على قوى الحداثة الرأسمالية والدول القومية في المنطقة؛ فيمكننا إدراك ما كان بإمكانه إنجاحه لو أنه كان حراً طليقاً. وباعتقادي ورأيي، لو كان القائد آبو طليقاً، لَكانت القضية الكردية قد حُلَّت منذ زمن طويل. وحلُّ القضية الكردية يعني دمقرطةَ تركيا. وهذا ما يعني بدوره أن منطقة الشرق الأوسط كانت ستدخل، بالتأكيد، مرحلةَ التحول الديمقراطي. بهذا المعنى، فإن التحول الديمقراطي في تركيا، التي هي عضو في حلف الناتو وتملك ثاني أكبر جيش، من شأنه أن يُخفف أعباء منطقة الشرق الأوسط بالتأكيد. بل وربما كانت حتى القضية الفلسطينية ستجد حلّها الحقيقي في هذه المرحلة.
2- هل تمكنتم من التواصل معه خلال سنوات وجوده في السجن؟ ولو كنتم استطعتم رؤية السيد أوجلان، ماذا كنتم ستسألونه على الصعيد الإنساني وعلى صعيد ملف القضية الوطنية؟ وما الذي كان سيهمه ويجب أن يعرفه؟ وإذا عرَّفتم السيد أوجلان كإنسان، فكيف ستُعرّفونه لنا؟
لسوء الحظ، لم أتمكن أنا، ولا أي من رفاقنا، من رؤية القائد آبو منذ 25 عاماً. فقط عائلته ومحاموه لديهم إمكانية اللقاء به. كنتُ ذكرتُ سابقاً أنه، لا القانون المحلي ولا القانون الدولي يَسرِيان في إمرالي بأي شكل من الأشكال. والحال هذه، فمن الصعب التواصل مع القائد آبو. إن سياسة إمرالي، التي تنتهجها القوى التآمرية والدولة التركية القائمة على الاحتلال والإبادة، وكذلك مقاربتها من القائد آبو، هي سياسية تماماً. لهذا السبب، وعلى رغم أن محامي القائد آبو وعائلته لديهم الحق القانوني باللقاء به، إلا إن هذا يكاد لا يحدث أبداً. إذ لم يتمكن محاموه من اللقاء به منذ ما يقارب العشر سنوات. ومنذ حوالي ثلاث سنوات لسنا على علم بأي شيء يحدث في إمرالي، إذ لم يلتقِ به محاموه ولا عائلته طيلة السنوات الثلاثة الماضية بصورة خاصة. لا أعتقد أن هناك مثالٌ شبيهٌ لذلك في العالم. فقد كانت ظروف مانديلا أثناء اعتقاله مختلفة. إذ، وبعد فترة قصيرة من الاعتقال، أُتيحَت له فرصة البقاء مع رفاقه واللقاء بمحاميه وعائلته. لكنّ وضع القائد آبو مختلف للغاية. إذ إنه محروم من كتابة أو استلام الرسائل، ومن إجراء المكالمات الهاتفية ومن كل شيء. وهذا هو سبب تمردنا الكبير، الذي بدأناه مع أصدقائنا. أي أن الحملة العالمية، التي أطلقناها للمطالبة بالحرية الجسدية للقائد آبو، هي ضد هذه العزلة المشددة.
لو أنه أتيحَت لي الفرصة لرؤية القائد آبو، فسأقول له أولاً، كرفيق، وبكل صراحة، أننا بقينا ناقصين تجاهه. ذلك أن القائد آبو منحَنا كلَّ ما نحتاجه، أيديولوجياً وفلسفياً ونظرياً، بحيث يكفينا لمدة 50 عاماً. كما أدى دوره التوجيهي كفايةً، بل ويزيد، في ظروف السجن. ولو أننا تمكّنّا من تمثيل القائد آبو بالشكل المناسب والكامل، لَكانت كل التطورات وكل شيء مختلفاً كثيراً الآن. وباختصار، كنتُ سأرغب أن أتطرق إلى صداقتنا غير الكافية بشأن هذه القضايا، وسأسردها له على شكل نقدٍ ذاتيّ بكل إيمان وإخلاص.
تسألونني عما كنتُ سأسأله على صعيد الإنسانية والقضية الوطنية لو أني تمكنتُ من اللقاء به. كنتُ سأُفَضّلُ الاستماعَ إليه باستمرار وحتى النهاية، بدلاً من طرح الأسئلة. ذلك أنه سيريد قول الكثير، بكل تأكيد. وأنا واثق أنني بحاجة ماسّة إلى ذلك، بعد النضال الشاقّ الذي دام 25 عاماً. ومع ذلك، لو أتيحت لي الفرصة، أجل، كنتُ سأسأل، دون شك، عن مسار الحياة الجماعية والكدح والحرية وإلى أين هي تتّجه. كما أود أن أسأل كيف حَوَّلَت الحداثةُ الرأسماليةُ البشرَ إلى روبوتات، وأنه يجري الحديث راهناً حتى عن الذكاء الصناعي، وأن هذه، في الواقع، هي أمور خارجة عن المألوف. وكنتُ سأسأل أنه كيف يمكن للبشر، رغم كل ذلك، أن يستعيدوا حيويتهم بذواتهم الحقيقية ليعودوا مجدداً إلى جذورهم. لكن، وبما أن الفلسفة الأساسية للقائد آبو تتمحور حول الإنسان والإنسانية، فإنه سيشرح لي، بكل طاقاته، كلَّ ما سيشعر أنني بحاجة إليه. إما أنه سيشرح، أو أنني سأسأل، بالتأكيد، عن حبه الكبير للطبيعة، وعن الأهمية العظمى التي يولِيها لحرية المرأة على الصعيد العالمي، وعن مواضيع أخرى.
وطبعاً، أود أن أسرد للقائد آبو أشياء كثيرة من شأنها أن تجعله فخوراً وسعيداً بما قمنا به وأنجزناه في الشأن الوطني. إذ لا شك أن نظرية “الحداثة الديمقراطية”، التي طرحها القائد آبو، قد وجدَت استجابةً كبيرةً لها، أكان فكرياً أم في الحياة، واكتسبت معاني عظيمة. إني أتحدث عن ثورة روج آفا، وعن الصحوة الثورية للشعوب، وعن تطور الوعي الديمقراطي. لكنّ هذا غير كافٍ، بل كان يجب تحسينه أكثر. من المعلوم أن القضايا الوطنية، أكان عالمياً أم تاريخياً، تمر بفترات الوجود (النشوء) والتطور والحل. فولادة الأمم تحققت مع ظهور الدول القومية، حصيلةَ نضالات عظيمة وتضحيات جسام. لكنّ الدولة القومية، في واقع الأمر، تعمل كآلةِ تدميرٍ كاملٍ للطبيعة، وكأداةِ مذبحةٍ للمجتمع. فظواهر الحرب والقمع والاستغلال والعنف، التي لا نهاية لها، متأصلةٌ في الدولة القومية. وعلى رغم كل التجارب المُعاشة، فمن الخطأ الفادح المساواة بين القضية الوطنية وبين الدولة، التي تطورت من حيث الجوهر كمطلب برجوازي. الاشتراكية المشيدة أيضاً تَبَنّت نفس نموذج الحل هذا، وصاغَت “حق الأمم في تقرير مصيرها” على أنه مساوٍ لبناء الدولة. واضح أن هاتَين العقليتَين، الاشتراكية والرأسمالية، تتحدان في ظاهرة “الدولة القومية”.
لقد طَوَّر القائد آبو مقاربة جديدة تماماً لحل القضية الوطنية من منظور تاريخي. فنموذج الأمة الديمقراطية، بدلاً من الدولة القومية، هو حل ثمين كالذهب بالنسبة للشعوب. فما يسري في الأمة الديمقراطية، بل وفي اتحاد الأمم الديمقراطية أيضاً، هو: بدلاً من “المزيد من الدول”؛ هناك المزيد من الديمقراطية، المزيد من الحرية، والمزيد من الحياة التشاركية العامرة بالمساواة والديمقراطية. إني أتحدث عن مشروع يرى الاختلافاتِ مصدرَ غنى، ويتمتع الكل فيه بكينونته، وتعيش الهويات والثقافات معاً في أجواءٍ تسودها المساواة والديمقراطية والحرية. وقد أطلقَ القائد آبو على ذلك مسَمّى “الكونفدرالية الديمقراطية”. ولو التقيتُ بالقائد آبو، فسأقول له: “لقد أحدَثَ مشروعُك هذا تأثيراً هائلاً على جميع الشعوب والثقافات والمجتمعات والمعتقدات. إن الشرق الأوسط يعيش التحول الديمقراطي”. وأعلم يقيناً أن القائد آبو سيشعر بالغبطة الكبرى لذلك.
تسألونني عمّا يهمه وما يحتاج إلى معرفته. إن القائد آبو شخصيةٌ لا يوجد، ولا يمكن أن يكون هناك أيُّ شيء يتعلق بالمجتمع والإنسان والطبيعة والبيئة، إلا ويهتمّ به ويودّ معرفته. فبقدر اهتمامه بكل شيء، فهو يريد دائماً إطلاعَه على كل شيء. إن هذه سِمةٌ أساسية لدى القائد آبو. بالتالي، أودّ أن أُطلِعَ القائد آبو على كل هذه القضايا قدرَ استطاعتي. أعتقد أنه سيكون لديه فضول وسيسأل بالتأكيد حول العلاقات الكردية – العربية والكردية – الفارسية والكردية – التركية. وسيسأل أيضاً عن نضال المرأة والمستوى الذي وصلَته حرية المرأة، وعن الوحدة الوطنية بين الكُرد، وبصورةٍ خاصةٍ عن مدى وكيفية التجاوب والنقاش بخصوص نظرية “الأمة الديمقراطية”، أكان في الشرق الأوسط أم في عموم العالم. حينها، سأُبلِغه، بدوري، بالإجابات الدقيقة والسديدة بقدرِ ما أملك من الوقت والمعرفة.
تريدون مني توصيف القائد آبو كإنسان. إنه، بالنسبة لي، شخصية خارقة حقاً. فنحن نعلم أن مثل هذه الشخصيات التاريخية تظهر مرةً كل بضعة قرون، وربما كل بضعة آلافٍ من السنين. هكذا أرى القائد آبو. فهو شخصيةٌ دولية تعَدَّت كونَها كردية. أي أنه لا ينتمي إلى أية أمة أو طبقة. فالمهمّ بالنسبة له هو الحقيقة. كما إن الديمقراطية والحرية مهمّتان بالنسبة له، بغض النظر عن الطبقة أو الأمة. وهو يُعَرّفُ الكدحَ على أنه الحرية. أما مصطلحا “الديمقراطية” و”المساواة” فقد تلازَما مع شخصية القائد آبو. والحياةُ بالنسبة له تعني الإنتاجَ والتفكيرَ والعملَ والبناء. أعلمُ جيداً مدى حنقته من العطالة والحياة الطفيلية. إنه يعمل وينتج بلا توقف، ويقدمُ ثمارَه لمَن حوله ولشعبه والإنسانية. أعلم جيداً مدى تقديره للإنسان. كما إنه متواضع، وحبُّه للطبيعة مذهل، ويريد أن يكون الشخص الآخر منفتحاً وصادقاً. ويُولي الأهميةَ للظهور بالكينونة الحقيقية، ويبغض المفاهيم والمواقف الازدواجية. كما يؤمن أن لدى الإنسان طاقة غير محدودة للتغيّر والتحوّل، بشرطِ أن يرى قصورَه ويعترف بخطئه. بهذا المعنى، فهو متسامح وواسع الصدر، ويعرف جيداً أنه بإمكان الإنسان أن يجدّد نفسه كلياً إذا ما رغب في ذلك. القائد آبو يعني التدريب والتعليم. فحياته كلها تدور حول التدريب والتعليم. إذ يتحدث ويستمع ويناقش دون كلل أو ملل. هكذا يُعَرِّفُ الحياةَ الواعية.
3- هل بذلتم أية جهودٍ لوضع القضية الكردية وملف اعتقال السيد أوجلان على جدول أعمال الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي؟
لا أدري إن كانت هناك قضية أخرى يصعف تعريفها وحلّها مثل القضية الكردية. فهي قضيةٌ عمرُها قرونٌ وتنتظر الحل. لاريب أن القضية الفلسطينية أيضاً مهمة للغاية. لكنّ شرعيةَ وجود الشعب الفلسطيني ونضاله معتَرَفٌ بها عموماً. وهي في حالة حرب مع إسرائيل منذ عام 1948. إنهم شعبٌ طوَّرَ مقاومةً عظيمة ودفعَ ثمناً باهظاً. إن ميزة الشعب الفلسطيني نسبةً إلى الكُرد، هي الاعترافُ بنضالهم في القانون الدولي. وهي ميزةٌ مهمة، على رغم بقاء الاعتراف لفظياً. فمهما عملَت الدولة الإسرائيلية على إخفاء جرائمها وإرهابها، وعلى اتهام نضال الشعب الفلسطيني بالإرهاب، إلا إن الجميع يعلم أن الحقيقة ليست كذلك. علماً أن لا أحد يقبل بهذا الأمر على هذا النحو، فيما عدا دولة إسرائيل. فالقانون الدولي مهتمٌّ بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وكذلك هيئة الأمم المتحدة. كما إن الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي أيضاً مهتمّتان، على رغم مواقفهما الواهنة والتي تستدعي النقد الجاد. ورغم كل شيء، فإن دولة إسرائيل لم تصل حدّ إنكارِ وجود الشعب الفلسطيني. لكن الواقع هو أنها تحتل فلسطين وتمارس ضغوطاً كبيرة على الشعب الفلسطيني.
أحاول إعطاء مثال الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لأجلِ فهمٍ أفضل للقضية الكردية ولنضالنا، ولإيضاحٍ أكبر بخصوص سياسات الدولة التركية الاحتلالية القائمة على الإبادة. فبحسب الدولة التركية الاحتلالية، لا يوجد شيء اسمه القضية الكردية. ولهذا السبب دائماً ما يقول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان: “أمة واحدة، دولة واحدة”. فهذا يعني إنكار وجود الشعب الكردي. حقاً أنه أمرٌ لا يُصَدَّقُ: كيف يمكنهم القول عن شعبٍ له تاريخٌ يعود إلى آلاف السنين، وعدد سكانه يتجاوز عشرات الملايين نسمة، أنه غير موجود؛ ويتصرفون وكأنهم يسخرون من التاريخ والوقائع والحقائق؟ لا مكان لهذا في علم السياسة والعلوم الاجتماعية. ولا يمكن تبريره أو قبوله أخلاقياً أو وجدانياً. فحسبَ بحثٍ حديثٍ أجراه لُغَوِيّون عالميون، احتلت اللغة الكردية المرتبةَ الثامنة بين لغات العالم، نظراً لعَراقَتِها وخصائصها الغنية. لكن، وحسب قناعة الدولة التركية، لا توجد لغة اسمها الكردية. وعندما يتم التحدث بها في الساحات العامة، يقال أنها “لغة غير معروفة”. هذا لوحده كافٍ لكشفِ مدى الإنكار والإبادة والعداء الذي تُكِنّه الدولة التركية تجاه الكُرد. أجل، يُعتَبَرُ الكردُ غير موجودين في تركيا. وكل مَن يطالب بالديمقراطية والمساواة والحرية وبحقوق الهوية للكُرد، أو مَن يقولُ أنه من حق الكرد أن يحكموا أنفسهم بإرادتهم الديمقراطية أسوةً بأي شعبٍ آخر؛ هو في نظر الدولة التركية إرهابيّ، بل ويجب معاملته بالتأكيد على أنه إرهابيّ. لقد بدأنا النضالَ في شمال كردستان (أي: جزء كردستان الموجود في تركيا) من تحت الصفر، إذا جاز التعبير، وطوَّرناه. كافحنا سنين عديدة لإقناع المجتمع بوجود الكُرد. ودفعنا تضحيات عظيمة في تاريخنا النضالي الممتد لخمسين عاماً. وقاوَمنا ببسالةٍ حقاً، كحركة وكشعب. وفي المرحلة الراهنة، فلتَزعَم الدولةُ التركيةُ قدر ما تشاء أن الكُرد غير موجودين، وأن حزب العمال الكردستاني إرهابي. فقد خرجَ الجنيُّ من القمقم، إن جاز التعبير. وسيستمر هذا النضال بوعيٍ وإصرارٍ ودون انقطاع حتى النصر.
من أخطر السيئات علينا، هي العلاقات العميقة والمتجذرة والمتعددة الأوجه للدولة التركية مع أمريكا وأوروبا وإسرائيل. فهي ثاني أكبر قوة في حلف الناتو. وتستخدم موقعها الجيوستراتيجي والجيوسياسي وتستغل ميزات عضويتها في الناتو ضدنا بطريقة لاأخلاقية ولاقانونية وبلا ضوابط. بهذا المعنى، فإن النضال الذي نخوضه، ومقاومة الشعب الكردي، هو في الوقت نفسه ضد الناتو أيضاً. ذلك أن الناتو يحارب، موضوعياً، الشعبَ الكردستاني. ونحن على درايةٍ تامةٍ بأن المعلومات التقنية والفنية والاستخباراتية التي يقدمها الناتو وإسرائيل إلى تركيا مكثفة للغاية. وتوصيفُ أمريكا وأوروبا لـ PKK بالإرهاب هو، تماماً، حصيلةُ العلاقات التي ذكرناها. فبهذا الشكل، يمكن، وبكل سهولة، وصمُ الأنشطة والفعاليات الاجتماعية والسياسية والعسكرية الأكثر قانونيةً وشرعيةً للكرد، بالإرهاب. وبالأصل، لا تلتزم الدولة التركية بأي قانون دولي ولا بقواعد الحرب. كما صرّح أردوغان علانيةً وأمام مرأى ومسمَع العالم على شاشات التلفزيون: “لن نتردد في القيام بما يلزم، حتى لو كان أمامنا امرأة أو طفل”. لقد قال ذلك في إشارةٍ لنضالنا ولمقاومة الشعب الكردي. وهكذا فعلوا. إذ قتلوا بكل وحشيةٍ الآلافَ من المدنيين والعجائز والنساء والأطفال. ولم يترددوا في استخدام الأسلحة النووية التكتيكية ضد قوات الكريلا. لقد كانوا مرتاحين للغاية، لأنهم يعتمدون على أمريكا وأوروبا وإسرائيل. بهذا المعنى، فعندما يتعلق الأمر بكردستان والكُرد وPKK، لم تتردد الدولة التركية أبداً، ولو للحظةٍ واحدة، في ارتكاب جميع أنواع جرائم الحرب؛ لأنها تنال دعمَ أمريكا وأوروبا وإسرائيل، ولأنها عضو في حلف الناتو. كما إنها سوق كبيرة، وهذا ما أثار دوماً شهيةَ أمريكا وأوروبا. وهذا هو السبب الأكبر وراء صمت العالَم عن جرائم الحرب التي ترتكبها الدولة التركية ضد الكُرد.
من المؤكد أن رجب طيب أردوغان وحكومة حزبه (حزب العدالة والتنمية) يسيئون استخدام الإسلام للحفاظ على حكمهم ولارتكاب الإبادة الجماعية ضد الكُرد. بالمقابل، لديهم تحالف وعلاقات شاملة للغاية، مع أمريكا وأوروبا علناً، ومع إسرائيل سراً؛ ومن ناحية أخرى، فإن مقاربتهم من الشعب الفلسطيني تقوم تماماً على الزيف والرياء والنفاق بما يشبه دموع التماسيح. أقول هذا باختصار للسبب الآتي: لقد طرحنا القضية الكردية، بالتأكيد، على جدول أعمال أمريكا وأوروبا عدة مرات. وقمنا بالعديد من المبادرات السياسية والقانونية. لكنّ مقاربات أمريكا وأوروبا، وكذلك هيئة الأمم المتحدة ومجلس أوروبا والمؤسسات الأخرى، لم تتعدَّ المقاربات التي ذكرتُها أعلاه. علاوةً على ذلك، يمكنني القول، وبكل سهولة، أننا عرضنا القضيةَ الكرديةَ ووضعَ القائد آبو عدة مراتٍ على جامعة الدول العربية وعلى منظمة التعاون الإسلامي، أكان بشكل مباشر أو غير مباشر. لكن، وللأسف الشديد، لم نَرَ أي اهتمام أو مقاربة إيجابية منهم كما يجب. وشئنا أم أبَينا، لم نتمالك أنفسنا من التساؤل عن مدى حرية الإرادة التي تتمتع بها جامعة الدول العربية لاتخاذ القرارات في مثل هذه القضايا. كما أعتقد أن الدولة التركية لها نفوذ كبير للغاية على منظمة التعاون الإسلامي. وبالأصل، فتركيا عضو في منظمة التعاون الإسلامي، وقد شغلت منصب الرئاسة فيها لفترة. أي، وبسبب نفوذ تركيا في منظمة التعاون الإسلامي، فلم يبرز أي رد فعل إيجابي في هذه المؤسسة أيضاً. أعتقد أنه على أصدقائنا العرب أن يلعبوا دوراً في هذه القضايا. فالمجتمع العربي والمثقفون العرب هم أكثر مَن يفهم القائد آبو بأفضل الأشكال. وأنا على قناعة بأن العالَم العربي سيتنفس الصعداء مع حل القضية الكردية. انطلاقاً من كل هذا، أعتقد أنه يمكن لأصدقائنا العرب، من مثقفين وكُتّاب وأكاديميين، القيام بأنشطة هادفةٍ وقَيّمةٍ للغاية، أكان على صعيد جامعة الدول العربية، أم منظمة التعاون الإسلامي. حقاً، إن ما سيفعله المجتمع العربي ومثقفوه ومنظماته سيكون في غاية الأهمية، سواء بخصوص السنوات الـ 25 من أَسْرِ القائد آبو، أو بشأن القضية الكردية التي ما تزال تنتظر حلّها.
4- كيف تُقَيّمون التغيرات والتطورات التي تشهدها المنطقة؟
يكمن بناء الدول القومية وراء المشاكل الراهنة في الشرق الأوسط. بطبيعة الحال، فإن خريطة الشرق الأوسط، التي رُسِمَت بعد الحرب العالمية الأولى، لم تَكُن قديمة. بل ربما فعَلَت الرأسمالية الأوروبية ذلك لتَصَوُّرِها أن ذلك يكفيها لمدةِ قرنٍ من الزمان. وطبعاً، لم يَكُن ذلك يعني السلامَ والطمأنينة، بل المشاكلَ والتناقضات والصراعات. يمكنني إعطاء مثالٍ كالتالي: إن اتفاقية سايكس بيكو تُمثّل للشرق الأوسط ما تمثله معاهدة فرساي بالنسبة لأوروبا. فمعاهدة فرساي، التي لعبت دوراً في السلامِ الذي أنهى السلامَ في أوروبا، قد أدت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية. وكانت اتفاقية سايكس بيكو أيضاً ستؤدي الدور نفسه في إحداث حروبٍ تستمر قرناً من الزمان في الشرق الأوسط. فبهذه الاتفاقية، ستظهر سلسلةٌ من الدول في المنطقة، وفي النتيجة، ستُحارب الدولُ القوميةُ شعوبَها داخلياً، وستتقاتل فيما بينها خارجياً. وها نحن الآن نتحدث عن الحرب العالمية الثالثة في الشرق الأوسط. وتماشياً مع القول المأثور: “كل عشب ينمو على جذوره”، فمن الواضح أن التطورات في الشرق الأوسط لن تحدد مصير المنطقة فحسب، بل ومصير الحداثة الرأسمالية أيضاً. أي أن الشرق الأوسط سيحدد مسارَ المرحلة التاريخية، وبالتالي، سيلعب دورَ المركز مرةً أخرى؛ في حين ستبقى أوروبا على مستوى الأطراف. وهذا ما مفاده أن الثوب الذي أُلبِسَ للشرق الأوسط قبل قرنٍ من الزمان قد باتَ ضيقاً عليه للغاية الآن، ويجب أن يتم تمزيقه ورميه تزامناً مع صحوة الشعوب ونضالها. وباعتبار أن هذه المنطقة كانت مهدَ تطوُّرِ الفكر والفلسفة والحياة التشاركية والثقافة، فإنه لا مفرّ من التغيّر والتحول الجذريَّين في هذه المرحلة. كلنا يعلم أن الرأسمالية تعاني اليوم من أخطر أزمة بنيوية. وبينما تحاول إنقاذ نفسها من خلال الاعتماد على الشرق الأوسط، فمن السهل أن نرى أنها ستقع في مأزق أعمق بكثير في المنطقة. ذلك أنه، لا الرأسمالية ولا شركاؤها من الدول القومية، لديهم ما يقدمونه للشرق الأوسط. وبالأصل، فقد فعلوا ما كانوا سيفعلونه، باستخدام أساليب الضغط والعنف العلني، وما يزالون يحاولون فعل ذلك. لقد أفلست المقاربات الاستشراقية والسياسات الفوقية. ما من ريب أن منطقة الشرق الأوسط تقاوم ضد أسلوب الحياة الرأسمالية، وضد تجريد الفرد من إنسانيته وتدمير القيم الاجتماعية. أي أنها ليست كأوروبا. وما سيتطور في الشرق الأوسط من الآن فصاعداً هو: الحياة التشاركية الديمقراطية، والفرد الحر، والمجتمع الديمقراطي. إن هذه الأراضي تشكل الحلقة الأضعف للحداثة الرأسمالية. لذا، إذا كنا نتطلع إلى تحقيق تغيير وتحول ثوري ديمقراطي، وبناء حياة مجتمعية ديمقراطية؛ فإن المكان المناسب لذلك هو، بالتأكيد، منطقة الشرق الأوسط. فلْيتعامل الرأسماليون مع الشرق الأوسط بطريقةٍ استشراقية ومتعالية، ولْيَستَخِفّوا به ويرَوه متخلفاً. لكن أوروبا والحداثة الرأسمالية تمثلان، في الواقع، العقليةَ الهشة والنظامَ المتفسخ. ربما أن الحقيقة التي تشير إلى مرونة الظواهر الاجتماعية وإلى وجود احتمالات الحلول المتعددة دائماً وحتى في أشدّ الأزمات، إنما تَسري على منطقة الشرق الأوسط بالأكثر. ففي هذه البقعة الجغرافية تبرعمَت وازدهرت الأفكار والآراء الجديدة، وأصبحَت منبع الأمل للإنسانية. إننا نقول في كل تقييماتنا أننا نشهد الحرب العالمية الثالثة في منطقة الشرق الأوسط. بالطبع، إنها ظاهرة مُعاشةٌ وحقيقية. لكن الصحيح أيضاً هو أن الحرب العالمية الثالثة ليست كالحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتَين استمرّت كل منهما حوالي أربع إلى خمس سنوات، مُخَلِّفَتَين وراءهما دماراً كبيراً. لكن، وبالمقابل، حدثَت الثورة الاشتراكية السوفياتية في ظل ظروف الحرب العالمية الأولى. وكان هذا وضعاً جديداً كلياً وتطوُّراً مذهلاً للبشرية. ثم بدأت الأيديولوجيا الاشتراكية تنتشر بسرعة في جميع أنحاء العالم. أما بعد الحرب العالمية الثانية، فبرزت حركات التحرر الوطني، التي تصاعدت كالسيل الجارف. وفي المحصلة، اتّحدَ ثلث العالم في القطب الاشتراكي السوفياتي ضد الإمبريالية الرأسمالية. الكل يعلم سيئات الاشتراكية المشيدة وأسباب تفككها وانهيارها. مع ذلك، لن يكون ممكناً ولا صائباً تجاهُلُ أو إنكارُ حقيقةِ حدوث تطورات مهمة وتاريخية للغاية بعد الحربَين العالميتَين.
منذ الآن نرى كيف أن الحرب العالمية الثالثة ستفتح الطريق أمام تطورات بالغة الأهمية في الشرق الأوسط. وأنا على قناعة بأن عواقب الحرب العالمية الثالثة ستؤدي إلى تطوير “اتحاد الأمم الديمقراطية”. أي أن الحداثة الديمقراطية سوف تنتصر على الحداثة الرأسمالية. ومن الجلي أن القضيتَين الكردية والفلسطينية سيكون لهما دور عظيم في ذلك. لدى الحديث عن الحرب العالمية الثالثة، فمن الخطأ الاعتقاد بأن هذه الحرب ستنتهي خلال 4 – 5 سنوات، كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ذلك أن هذه الحرب هي حرب متعددة الأوجه ومستمرة على كافة المستويات: عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وأيديولوجياً ومعنوياً. واستناداً إلى الدروس التي استخلصَتها من التاريخ، قد لا تُفضّل قوى الحداثة الرأسمالية خوضَ حربٍ كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعوضاً عن ذلك، سوف تُطَوّر سياسةَ تأسيس مصالحها في المنطقة استناداً إلى إنهاك الشرق الأوسط، وذلك من خلال جعل شركائها ومختلف المنظمات والدول القومية يتقاتلون فيما يسمى بـ”الحرب بالوكالة”. بهذا المعنى، فإن وعي “الأمة الديمقراطية” البعيد عن عصبيةِ الدولة القومية، يشكل حقاً عاملاً حاسماً وحيوياً في تقرير مصير المنطقة. فمن الواضح للعيان كيف أن الربيع الزائف، الذي سُمِّيَ “الربيع العربي”، ما يزال يتسبب بآلام ومخاضات الشعوب. فليبيا الآن ليست في وضعٍ أفضل من ذي قبل. كذلك تونس وسوريا. ما يتجلى هنا هو أن ذهنية الدولة القومية هي ذهنيةٌ بلا مستقبل بالنسبة للشعوب. أود الإشارة مجدداً إلى أنه لا غنى للشرق الأوسط عن وعي الأمة الديمقراطية وعن نموذج الكونفدرالية الديمقراطية باعتباره شكلاً إدارياً. وفي هذه النقطة بالذات، تكتسب رؤية “الحداثة الديمقراطية”، التي طوّرها النضال التحرري الكردستاني والقائد آبو، أهميةً بارزة. بهذا المعنى، يمكن القول أن منطقة الشرق الأوسط قد دخلت، بالفعل، في عملية تغَيُّرٍ وتحَوُّلٍ جديّ لإعادة توحيدها مع جذورها. المهم هنا هو أن تقوم القوى الديمقراطية الرائدة للنضال بواجباتها ومسؤولياتها في الوقت المناسب وعلى أسس صحيحة.
يتبع في الجزء الثالث..